مَآلاتُ العُبورِ السُّورِيِّ الأخيرِ (4) فُصولُ الرَّحيلِ والأنينِ والحِصارِ . بقلم الشاعر : منصور الشامسي
#سفيربرس _ الإمارات العربية المتحدة

(II) وقُلْنا دِمَشْقُ لَيْستْ هُنا /
دِمَشْقُ
شَهيدَةٌ،
زُمُرُّدَةٌ
صاعِدَةٌ،
إلى نُقوشِ السَّماواتْ،
هالاتٌ إثْرَ هالاتْ /
بِوسْعي رُؤيتُها
تَمَسُّ البَهاء الأزْرقَ، تَحْضُنُ الأزْرقَ المُتَدَرِّجَ،
تُلاطِفُ الأزْرقَ الآخَرَ السّائرَ في الأبْيَضِ البَرّاق،
تَحْكي مَعَ الأبْيضِ الشَّفافِ وذاكَ الثَّلْجيِّ،
تُسارِرُ اللّاَزوَرْدِيَّ، والفَيْروزيَّ؛ كُلُّ الأزْرَقِ باتَ دِمَشْقيّاً،
وتُسامِرُ الشَّفَقِيَّ والغَسَقِيَّ،
وتَجْلِسُ في جَوْفِ السّديمِ المُلَوَّنِ
ألْوانُ السَّماءِ فاضَتْ بأشْكالِها في أحْواض وَرْدٍ
تَنْثَني لَها زَخارِفُ
مَداها الرَّوْضُ الغالِبُ،
سارَتْ إلى مَوْعِدِها،
دِمَشْقُ،
جِئْنا لِوَداعِها /
وكَيْ نُخْفيها عَنِ الأعْداءِ،
ولِئلّا يَسألوا عَنْها،
قُلْنا:
دِمَشْقُ،
سارَتْ في مَشاهِدِها، خارجَ الأرْضِ، وهَيْهاتِ أنْ تَرَوْها /
غابَتْ في أحْلامِها البارِعَةِ، تَجْرؤ أنْ تَعْزِفَها /
وقُلْنا:
فيما مَضى كانَتْ هُنا /
هَذي أكاليلُها وأكْياسُ الذَّهَبْ /
هَذي عُقودُها وعَناقيدُ العِنَبْ /
كانَتْ تَعيشُ بِسلامٍ، لا تَتْرُكُ البَيْتَ،
تَحْيا العيدَ قَبْلَ العيدِ /
في ذلكَ الزَّمَنِ القَديمِ
في لَيالي دِمَشْقَ، يَخْرُجُ القَلْبُ مِنْ غُرَفِهِ، يَدْخُلُ الأَرْوِقَةَ،
يَخْرُجُ مِنْها، يَدْخُلُ الخَيْزُرانُ، تَتَبْعَهُ الأعْمِدَةُ،
كانَ لِلْقَلْبِ وَجْهٌ ضَحوكٌ جَميلٌ
لَكِنَّهُ اليَوْمَ دونَ حَراكٍ
دِمَشْقُ لَيْسَتْ هُنا
لَيْسَتْ هُناكَ /
حَسَناً..
تَسْألُني أيْنَ دِمَشْقُ؟
سأقولُ؛ طَوَتْ سِرَّها وأجْنِحَتَها ودَمَ القَتْلى
وماتَتْ /
لا سَهْرةٌ في شُرُفاتِها،
باتَتْ /
عِنْدَ قَوْلِ الحَقيقةِ يَنْتابُني حُزْنٌ عَميقٌ
ويُؤلِمُني القَلْبُ أكْثَرَ حينَ أقولُ غَيْرَها /
ولَوْ أنّ لي مَكاناً آخَرَ غَيْرَ دِمَشْقَ أدْلُفُ مِنْهُ إلى الفَجْرِ
فَلَرُبَّما أَدْهَشْتُ النّاسَ بِفَرَحي
ولَكُنْتُ أَتَوارى عَنْ كُلِّ نَظَرٍ لا يَوَدُّني
ولَكِنّ ظَلَّها الَذي يُرافِقُني
حَراكُ دَمي
باسْتمرارٍ يُحَدِّثُني
على انْفِرادٍ:
عَشْرَةُ أعْوامٍ مِنْ حَرْبٍ /
سِتّونَ عاماً مِنْ رِباطٍ /
مِئةُ عامٍ مِنْ شُعَلٍ /
ألْفُ عامٍ مِنْ صَبْرٍ /
وألْفٌ وأرْبَعُمِئةٍ وأرْبَعةٌ وأرْبعونَ عاماً مِنْ حُبٍّ عَربيٍّ
وأمْهُرٌ صَهْباءُ مَسْروجَةٌ أرْسَلْتُها في كُلِّ اتّجاهٍ
مُولَعَةٌ بالوَرْدِ الأحْمَرِ تَنْثُرُهُ على صِراطٍ جَعَلَتْهُ مَسْروراً /
تُوصيني دِمَشْقُ:
تُحَدِّثُ بشَكْلٍ هادئٍ عَنّي، رَفيقي، ولا تَنْسى حَديقَتي،
وتُعاهِدُها مِنْ بَعْدي
سآتيكَ في الحُلُم مِراراً أسْألُ عَنْها
وفي كُلِّ صَباحٍ أقْتَرِبُ مِنْكَ
أرى لُطْفكَ المَرْسومَ على مَناديلَ تَرَكْتُها عِنْدَك
وآخِرُ أمْنِياتي رَسَمْتُها على جِدارِكَ
وأزورُكَ في بِدايةِ كُلِّ شِتاء
لِأرى أشْجاري
هَلْ سارَتْ في مَمَرّاتٍ شَهْباءَ إزاءَ بابِكَ تَرْقُبُها وتُخْبِرُني
ورُبَّما آتيكَ في تَجْويفِ قَلْبِكَ
أرى أحْزانَكَ السَّابِحَةَ ماذا حَلَّ بها؟
كَيْفَ احْتَمَلْتَ العاصِفَةَ /
– هُو الفِراقُ إذَنْ؟ رُبَّما /
حَبَّذا لَوْ أَكْتُبُ رِسالَةً طَويلَةً يَقْرَأُها غَيْري،
قُلْنا: هَذا رُفاتُها،
هذا ضَريحُها مِنْ جَصٍّ وقِرْميدٍ وأحْجارٍ
بَيْتُها، مَرْصوصٌ بَيْنَ البَراكينَ، تَسْمَعُ أنينَها،
كُلَّما لَمَسْتَهُ شَبَّتْ مِنْ حَوْلِكَ حَرائقُ /
هَذي ثِيابُها مِنْ مَجَرّاتٍ صارَتْ جَحيماً تَحْمِلُهُ الرّيحُ / تَسْكُبُهُ البَيارِقُ /
هَذي دُموعُها بِلا ضِفافٍ،
هُو ذا تاجُها تَتَقاذَفُهُ الأنْهارُ،
هِي ذي أعْراسُها تَنْهارُ /
و ما مِنْ مُصَلٍّ عَلَيْها هُنا /
وما مِنْ حَزينٍ عَلَيْها هُناك /
– يا لَغُرْبَةِ دِمَشْقَ في هذا الزَّمانِ /
وقُلْنا: لا تَقْتَرِبوا /
دِمَشْقُ تَسْتَريحُ /
كَيْ لا يَبْقَوْا بجانِبِنا /
كَيْ لا يَنْظُروا إلَيْها ويَسألوها الدَّمَ أَكْثَرَ /
أوْ قُلْنا: كُلُّ شَيْءٍ على ما يُرام،
فاتِنَةٌ/ أنيقَةٌ / لاهِيَةٌ بدلالها / غَلبَها حُسْنُها / مُتْرَفَةٌ / ذَهَبَتْ تَتَزَيَّنُ، تُزَجِّج حواجِبَها، وتَقُصُّ أطْرافَ شَعْرِها، تُحاذي الذَّهَبَ بالفِضَّةِ وتَضَعُ شرائطَ الحَرير، وتُبَدِّلُ المَرايا،
وقُلْنا: لَبِسَتْ ثَوْبَها وذَهَبَتْ إلى الحُقولِ البَعيدةِ
تَلاشَتْ هُناك، تَهيمُ، تَجولُ بِبَصَرِها في سُهولِ بِلادِها،
تَخْفِقُ أقْدامَها في الطّينِ، وتَرْقُبُ جَنْيَ المَحاصيلِ /
قُلْنا أيَّ شَيءٍ /
حَقيقةً، أو خَيالاً
كَيْ نُبْعِدَهُم عَنْها /
ولا تَراهُم ، ولا نَراهُم،
ورُبَّما بَكَتِ الظُّنونُ وسَكَبْنا المَعاني في الكَلِماتِ الغامِضَةِ
حَتّى لا يَبْقى عِنْدها ظَلومٌ
ودَرَجْنا مُلايَناتٍ خَوْفاً عَلَيْها لائقاً بِجلالِها، مَشْياً في الرِّكابِ /
و لا تَعْليلَ في الحُبّ، ولا تَبْديلَ في الشَّوْق،
سِوى ما نَطَقَ الغَمامُ فَوْقَ أرْضِ الشّام /
# سفيربرس _ بقلم الشاعر: منصور جاسم الشامسي
دولة الإمارات العربية المتحدة