نزيلات هاديس.. للشاعرة ابتهال بليبل: عبقريةُ الطرح وجرأة أدبية ، لم نشهدها في الأدب النسوي المعاصر …
#سفير -برس -هويدا محمد مصطفى

جوانبُ خفيةُُ في التجربة الفنية للشاعرة /ابتهال بليبل/ .
ثمة لغة ترقى إلى درجة الغموض الساحر، و رحلة اليقظة التي أخذتنا إليها الشاعرة في مجموعتها الشعرية (نزيلات هاديس) ، وقد عكس العنوان الذي هو العتبة الأولى المرتبطة بالوجود نفسه من خلال تعبيراته المرتبطة بمخيلة مشبعة بالرؤى و الواقع الذي يسكن خلايا الروح ، فكان السجن يصرخ بمشاهدَ ناطقة صامتة في آن لنساءِِ مازالت مسامات أجسادهن تطلق زفرة الخلاص .
فالشاعرة لديها طاقة شعرية عالية المستوى ، وقد تخللتها عروق درامية تثير القارىء ، وتفيضُ بمخيلة تتناغم في بنيتها الفنية ، عبر وفرة وتدفق الصور الشعرية التي ارتقت فيها العاطفة ، وتوهجت طافيةََ على سطح السؤال لتدخل في كل الأمكنة ، و لتخرج فيما بعد متجاوزةََ كل الصراعات الأسلوبية التي أثارتها الحداثة ، و ظلت وفية لصرختها في اللغة مُلبسِةََ قصيدتها التخييلَ وصراع المتناقضات ، لتنقلنا إلى حالاتِِ متتاليةِِ ، تدعو إلى التأمل في فلسفة الخوف والموت بأجسادِِ مُعلقةِِ على إيقاع الزمن الذي يستهلكُ عتمةَ دهره حينَ تصدحُ الروح في مخاض الولادة .
وفي مقطعِِ من (ضفة الذبول_الترجل الثاني)
تقول الشاعرة :
《 للذين يجيؤون مُتأخرين : هاديسُ ليسَ سوى حياةِِ صفراءَ مختبئةِِ في دماغِ أمراةِِ ما.. أقول للذين مازالوا يخمنون شكلها : لافائدة .. لأنه إنْ دخلَها أحدُهم لنْ يعودَ منها كما هو. هاديس …الذي ستتعرفُ على ملامحه لن تنساه .. لذا فمن الأحوَط ألَّا تركز على ملامحه في المرايا ، لأنك ستبصرها تمتصك مثل ليمونة مثقوبة كيلا تستطيع البقاء قيد النسيان 》 .
يمتدُّ الشعرُ هنا بعلاماتِِ فارقة و نداءاتِِ غرضها الإنساني ينسجمُ مع التوابيت التي تحملُ الناس وهم أحياء ، بعدما اخترقت الأنَّاتُ الجنائزية كلَّ الآذانِ ، و سَطَتْ على المشاريع الأخرى في عالمنا المترامي .
الشاعرة قدمت حركة زمنية تدلُّ على شعرية أنيقة قادرة على الغوص والتأثير ، و هذا السلوك اللغوي و هذا العمق الذي تسكب فيه الشاعرة أوجاعها تحتاج إلى قارىءِِ قادرِِ على تفكيك حجارة الرمز ، باالرغم من الشفافية والدلالات التي تحمي ذاك السلوك ، بحثاً عن الذات المنصهرة في أتونِ اللغة ، و تأتي صياغتها عبر جملة خبرية متوازنة توقظ مخيلة المتلقي ، و تثيرُ فيه الكوامنَ ، ولكن ليس على مائدة التنجيم ، وإنما في الوقوف على أعتاب النص والتماهي مع الرؤيا في انقلاب جديد على العتمات .
و في نص بعنوان (لوحة كريستيان)
تقول الشاعرة:
《 من شباك كأفق مَهيضِ الزوايا في الطابق الثاني لبناية المُشرَّدات .. تتناثر ألواح الإسفنج الغائمة بسحب داكنة أمام الوجوه المضيئة كأشباح
تتوضأ بالنيران..》
بينما النزيلات الجديرات بكتاب (شاكوش السحارات) يَدُرْنَ حولَ أسيَجةِِ أجْهَدَتها عذاباتُُ قديمةُُ .
يبدو الحديث عن القصيدة المقهورة التي اتحدَتْ حتى الذروة في المأساة أمراً صعباً ، لأنها ليست قصيدة قابلة لأن تدخل عتمة النسيان ، وهي تدخل موجة العواطف في جرأة استثنائية قادرة على اقتحام رموز الحواس باندفاعات وجدانية مرتبطة ارتباطاً إنسانياً بالقوى الداخلية ، التي تقف على المصير البشري بكل اتجاهاته القريبة و البعيدة .
الشاعرة هنا تمنح الفكرة تعبيراً شعرياً من نمط جديد وكيف لا ؟ وقد دللت ظلال المفردات العاكسة لمرآة الخيال على فجيعةِِ شخصية ذات اعتلالات عضوية كادت أن تجفَّ على إثرها الأنفاسُ ، ونجدُ أنَّ هناك فلسفة البناء في النص مشبعةُُ بالغائية التي يحقق بها الجسد سعادته بالموت ، حتى ولو تعرض حدسه إلى الخديعة الفنية في بعض الأحيان ، فالتصاعد الدرامي في النص الشعري يحمل علامة من علامات الاتساع في الأفق الشعري والولوج في أعماق اللغة ونسيجها المتقن بشمولية اللون المتجدد و التحويرات التي نقلت يوميات القصيدة النابضة بتعددية الأصوات ، وبلاغة التشبيهات في فضاء الاستعارات .
وفي نص بعنوان (جرائم أنثوية)
تقول الشاعرة :
《 أي عالم يطاردني هذا
و رأسي مقبرة لأموات بلا أكفان
الأكفان بين ذراعي المقيدة بسلاسل لامرئية
أميل قليلاً على الزجاج البوهيمي
وجهي الذي بلا ملامح
يلفظني مصفرة من حياة عارفة أنَّ
السعالَ لم يعد يأمنُ فيها من التهابات القفص
الصدري ، أو يصدق طبيباً يداعب أثدائي بحجة الإمساك
بفيروسات تركل صدري عند التنفس 》.
يقف القارىء أمام شاعرية استولدتها مخيلة تقنية من خلال أسرار هادئة في حاضنة الشعر ، لتبدو الصورة مُشعةََ أكثر ، وكأنها تفصح عن نفاذ الأكسجين في الأحياء ، هذا التنسيق في حركة المجازات داخل النص مفاجئُُ لما أحدثته من دهشة و هي تعبر محطات الرؤية التي سكبت فيها الشاعرة شهادتها على الواقع المحزون ، وقد تجاوزت القوالب الجامدة ، مدركةََ أن الوظيفة الجمالية في الشعر مرتبطة بالمونولوج الداخلي الذي يعكس غنى التجربة ، والقدرة على تحميل الأشياء المحسوسة و المجردة ، هذه السمة تعكس علاقة الشاعرة بنصوصها أولاً ، وبقدرتها على التخطي والتجاوز لما تشاهده ساحات التجريب الشعري هذه الأيام.
وفي نص بعنوان (سجون للرقص)
تقول الشاعرة :
《 في المحيط الهائج بالأغنيات الحائرة
كان الفستان المصنوع من الحرير، بلون أحشائي الراكدة في نسيان لاينتهي….وكنت أبتكر مشهداً لايسرع إخفاء الوجوه اللامعة
بحقيقة المنهمك في ألعابه
مع الأقنعة الغارقة 》.
هل البحث عن علاقة جديدة لتحرير الكون والإنسان على أساس شعري يحتاج إلى مهلة من الحياة أو صدفة من نوع آخر ، لإصلاح ما أفسده الزمن نفسه عبر اشتعال روحي وتمرد مضيء ؟
قد يحتمل الجواب على هذا السؤال توقعات كثيرة ومثيرة أيضاً ، ويجيء الكشف عن هذا المخبوء الفلسفي من خلال الامتلاء التقني في حركة النصوص ، و فاجأتنا الأنا كامتداد للظاهرة الوجودية عبر تنظيم العصيان المؤقت ضد حركة المجهول أحياناً في هجمومها الشامل على قوانين الحياة المتعثرة برؤى شعرية تخطت فيها الشاعرة حدود الزمان والمكان وتكرار الضمير المتكلم “أنا ”
في النصوص يوحي برفض تام لحركة الجماد و مايدعيه المرء وهو يعيش مرحلة المنفى الداخلي و الألم الذي يباع في المزاد .
لقد كسرت الشاعرة ابتهال المألوف في معالم الزينة التي تحتاج إليها النساء واستطاعت الحركة الناظمة لعلاقة المفردات مع بعضها أن تمضي في انفعال تخطو على إيقاعه انسيابية التعبير ، و تقفز الصورة اللمَّاحة ، بكل تواتراتها المثيرة ، وقد حققت اندماجاً يتصل بالإشارات على الرغم من سهولتها في التفسير.
(نزيلات هاديس) لقد حاولت الشاعرة ابتهال بليبل أن تضفي على الشعر جغرافيته الروحية التي تعتمد على الدفقة الشعورية المتماسكة ذات الإيقاع الموسيقي الداخلي ، وعلى عنصري الدهشة والمفاجأة ، وترك النص يلقي بظلاله على القارىء .
#سفير -برس -هويدا محمد مصطفى