صعوبة و ضرورة الفصل بين الملح و السكر..بقلم : د. سناء شامي
#سفيربرس

ضقلت في مداخلة لي لراديو ب ب سي إذا كان لا بد بأن أعتبر
(الربيع العربي) على إنه ثورات عربية، فأنا أفضّل تسميتها ثورات البوب كورن. إعلاميون، أكاديميون، مثقفون و شعوب، زغردت و ولولت طبّلت و زمّرت لقدوم الديمقراطية، دون أن يعرفوا ماهية و جذور ما يُسمّى بالنظام الديموقراطي، و هل المنطقة العربية تحتاج إلى نظام مستورد كهذا؟ و كيف يمكن الوثوق بنظام ديمقراطي مصنوع ممّن صنع تجزئة المنطقة العربية و صنع ديكتاتورياتها؟ الكل يثرثر و يلعن إتفاقية سايكس-بيكو دون أدنى معرفة بعلاقتها بشكل الدول و الأنظمة التي حكمت و ما زالت تحكم المنطقة العربية و الإسلامية. و بتحليل الجانب العملي لاتفاقيات سايكس-بيكو، بدءاً من الحرب العالمية الأولى، و تأثيرها على بنية الشرق الأوسط، نلاحظ أن موديل الدولة الحديثة، و أقصد دولة «ما بعد وستفاليا»، هي مؤسسة صدّرها المستعمر نفسه إلى الشرق الأوسط الشرق. لقد ساهمت اتفاقيات سايكس بيكو والمعاهدات اللاحقة، في تجذير الدولة الحديثة بالمنطقة العربية و الإسلامية، كما أنتجت شكل الشعوب الحالية. لم تكن سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين موجودة على هذا النحو، باستثناء “التعبيرات الجغرافية” للإمبراطورية العثمانية؛ لقد كان التقسيم الإلزامي للشرق الأوسط، والذي كانت اتفاقيات سايكس بيكو بمثابة مقدماته، هو الذي مزق أوصال الإمبراطورية العثمانية وصمم البنية الجيوسياسية الحالية. ويمكن الآن تفصيل الأزمة العربية التي لا تزال مستمرة، و مدى إرتباطها بمسار الدولة الحديثة في الشرق الأوسط.
المرحلة الأولى، مرحلة الدولة الاستعمارية: هي ثمرة الاستعمار، بينما المرحلة الثانية هي مرحلة دولة ما بعد الاستعمار: وهي ثمرة إنهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وعمليات الاستقلال. وتنتهي أزمة الدولة الحديثة بالتزامن مع ظهور الإسلاموية المتطرفة؛ ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، وما زالت مستمرة.
أمّا عن الإستقلال الهش: سوريا و لبنان إستقلّتا في عام 1946؛ مصر مع ثورة عبد الناصر للضباط الأحرار عام 1952؛ العراق حتى ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي الهاشمي؛ تونس والمغرب والسودان حصلوا على الاستقلال عام 1956؛ الجزائر في عام 1962، دفعت ثمنها، كما هو معروف، ثماني سنوات من الحرب الأهلية المخيفة؛ ليبيا حتى ثورة 1969 للضباط الأحرار بقيادة معمر القذافي.
تطورت هذه الدول التي وُلدت بمخاض إستعماري، و إستقلت بإخراج خفي من وراء الكواليس الإستعمارية، لكن نعمة إستقلالها لم تدُمْ طويلاً، إذ جاءت حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967 التي شهدت هزيمة العرب، وخاصة مصر عبد الناصر، و هذه الهزيمة كانت بمثابة علامة على نهاية فترة ما بعد الاستعمار.
منذ السبعينيات، شكّل الظهور التدريجي للإسلام السياسي (و هذا أيضاً بإخراج مسرحي غربي خفي و متقن) ، سواء من جماعة الإخوان المسلمين أو السلفية، أو الجهادية التي بلغت ذروتها في تنظيم القاعدة وداعش، أحد العوامل الحاسمة التي تسببت في الأزمة التي لا رجعة فيها في مرحلة ما بعد الاستعمار. أغلب هذه التنظيمات الإسلامية، إستوحت إلى حد كبير، الخطوط اللأساسية لأيديولوجيات الغرب، العلمانية مثل القومية والوحدة العربية والاشتراكية، وبالتالي فإن عودة الإسلام السياسي المتشدد بعد فشل تلك الأيديولوجيات أدت إلى تحول خطير، أطلق عليه الغرب إسم “الربيع العربي” و ذلك بين عامي 2011 و2013.
لذا، يمكننا أن نرى أن النار التي تحرق الشرق الأوسط اليوم كانت مخفية تحت رماد الدولة الاستعمارية، التي نشأت من الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، سواء من حيث أنها استوردت النماذج السياسية للغرب أو من حيث أنها ظلت تحت المزيد من هيمنته بشكل غير مباشر. طوال هذه السنوات. شكلت هذه الدولة الاستعمارية واقعًا تاريخيًا وسياسيًا لم يكن معروفًا من قبل في الشرق الأوسط، لأنه في السابق، كانت هناك في الواقع إمبراطوريات فوق وطنية، من الخلافة الكلاسيكية إلى الإمبراطورية العثمانية، والتي ضمت مناطق وشعوبًا لم تعترف بنفسها في العالم، كانت الفكرة الوطنية، أو السلطنات المحلية تتعايش بسلام دون أن يشغلها موضوع هويتها الخاصة. إن تشكيل الكيانات الإقليمية في أعقاب الاستعمار والتقسيم الإلزامي ساهم في نمو الوعي “القومي”، على الرغم من أن ذلك تسبب في صراعات مختلفة وأعاق تحقيق كيانات أكبر، مثل تحقيق حلم الوحدة العربية من المحيط الأطلسي إلى العراق. على سبيل المثال، دعونا ننظر إلى التقسيم الخفي الذي قام به الفرنسيون لـ “سوريا الكبرى”، أدى إلى إعادة خلق سوريا نفسها وإلى لبنان، وهما دولتان شهدتا في العقود التالية صراعات داخلية طويلة، ومع ذلك يظل مصيرهما المحفوف بالمخاطر مرتبطًا ببعضهما البعض. وستكون العلاقات بين سوريا والعراق متوترة بنفس القدر. حتى لو لم يكن الهلال الخصيب (ولكن الآن من الناحية الجيوسياسية بالمعنى الواسع فالشرق الأوسط، بات يشمل أيضاً شمال أفريقيا، MINA)، إن إنشاء الحدود، التي ربما تم رسمها برأس قلم رصاص عبر الصحاري، قد تسبب أيضًا في العداء في المغرب العربي. و في منطقة النيل بين هياكل الدولة الجديدة في الجزائر والمغرب؛ وبين المغرب والصحراء الإسبانية السابقة؛ بين مصر والسودان…
لا شك أن الدولة الاستعمارية قد أنشأت ووفرت البنى التحتية الحديثة لإدارة وتنظيم السلطة، وخلقت البيروقراطيات واستوردت نماذج من الأنظمة الدستورية مع البرلمانات والأحزاب إلى المنطقة التي شكّلتها بما يناسب مصالحها، لكنها مع ذلك عمّقت العيوب الاقتصادية والاجتماعية من خلال تفضيل و ترسيخ ولادة و تطوير النخب المحلية في المجتمع، و التي بدورها استولت على النقاط الحيوية للنظام الحاكم نفسه و الذي هو بدوره صناعة غربية… هذه الطبخة لشكل الدولة الحديثة، سمحت لهذه الزمر الإجتماعية، و التي أسموها بالنخبة، بالتعاون مع الحكام المحليون من أجل الإنفلات من سلطة القانون والأنظمة السياسية المركزية الحاكمة، و طبعاً هذا أدى ذلك إلى تعميق الفجوة بين الدولة والنخب الحاكمة، من ناحية، وجماهير السكان، في عملية تشكيل المجتمع المدني، من ناحية أخرى.
وإذا كانت الدولة الاستعمارية قد شهدت تأكيدًا، بأشكال مختلفة، لموجة جديدة من الأسلمة، فإن دولة ما بعد الاستعمار شهدت مرحلة عملية العلمنة، المختلفة عن مشروع النهضة والإصلاح. إذاً، إن دولة ما بعد الاستعمار نشأت من عمليّتي الاستقلال وإنهاء الاستعمار، و كانت الاشتراكية والوحدة العربية الأيديولوجيتين الرئيسيتين في هذه المرحلة الانتقالية، ولكن من الطبيعي أن تنشط وتنمو المشاعر القومية المحلية أيضًا، و هذا ما حدث في سوريا ومصر والجزائر… إذ وُلد حزب البعث، حزب النهضة العربية الاشتراكية، في سوريا. وفي مصر، مثّل عبد الناصر (1956-1970) دور الشعوب العربية والإسلامية، في الإطار الأوسع لعدم الانحياز، في إعادة تصميم الجغرافيا السياسية العالمية. كذلك أنتجت الثورة الجزائرية (1954-1962) تجربة فريدة في تشابك الاشتراكية والإسلام استمرت حتى نهاية رئاسة هواري بومدين (1979)
لقد تم هيكلة دولة ما بعد الاستعمار في كثير من الحالات بدءاً من تدخل الجيش في السياسة والمجتمع والاقتصاد. من مصر إلى سوريا، ومن الجزائر إلى السودان، وإلى تركيا وإيران. من الواضح أن الأنظمة العسكرية كانت تتمتع بسلطة قوية، ولكن دون أن يكون هناك التزام ملزم بالمعايير القانونية للنخب الحاكمة. وكثيراً ما ميّزت البيروقراطية والفساد هذه التجربة. لقد تجاوزت السلطة التنفيذية السلطتين التشريعية والقضائية، الأمر الذي أدى إلى خروج المجتمع المدني وإخضاعه لرقابة صارمة وتكميم أفواه قواه الأكثر ابتكارا وعدائية. ومن ثم، فقد بدت الدول العربية و الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار ضعيفة للغاية على المستوى المؤسسي، ومعوقة بشكل أساسي على مستوى التطور السياسي. لقد كانت القوة العسكرية في أغلب الأوقات ضرورية لحكم وتوجيه التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها أنتجت بوضوح نظاماً استبدادياً مركزياً بيروقراطياً تسبب في أزمات داخلية خطيرة. لقد كانت هناك رسملة للدولة من قبل النخب الحاكمة على حساب المجتمع المدني. لقد قامت النخب الحاكمة بخنق المجتمع المدني لضمان الحفاظ على امتيازاتها. وكثيراً ما تتزامن النخب العسكرية و النخب السياسية والاقتصادية، و جميع ذلك يصبُّ في مصلحة مؤسس الدول العربية الحديثة ما بعد الإستقلال، أي العدو نفسه الذي يتابع مخططاته الإستعمارية في المنطقة، و بناءً على الطرح السابق، أعتقد واضحاً صعوبة التمييز بين العدو الخارجي و العدو الداخلي، و ذلك بسبب هشاشة مؤسسات الدولة التي تفتقر إلى عمود فقري عربي خاص بها. و السؤال، أليس الوقت مناسباً، للتحرر من هذا الإستغلال الطويل؟ و العمل على نظام خاص بطبيعة و تراث و عادات و حضارة المنطقة؟ الهوية ليست حدود رسمها الإستعمار، و لا أعلام لوّنها سايكس خلال 20 دقيقة. لماذا لا نعيد النظر بقيمنا و بالنظام الإسلامي بشكل علمي، منطقي، موضوعي و بعيداً عن التشوهات التاريخية و الطائفية التي زرعها العدو خوفاً من صحة هذا النظام الإسلامي الذي يضاهي بفعاليته و شموليته، جميع الأنظمة السياسية التي حكمت و تحكم أوربا، و هذا بشهادة فلاسفة و مفكرين أوربيين أيضاً. هوية تركيا، إيران، اليابان كانت في حفاظهم على خصوصية تراثهم، و ليس في حدود جغرافية-سياسية، بطبيعتها التاريخية تحمل صفة التغيير. كيف لنا أن نهزم العدو و نحن ما زلنا نلتزم بالحدود التي رسمها لنا؟ لماذا “الربيع العربي” لم يزيل الحدود بين الدول العربية؟ لماذا الأنظمة العربية تسمح لشبابها برمي أنفسهم في البحر للوصول إلى أوربا، و لا تفتح لهم الحدود للدخول إلى فلسطين؟ كم عدد شباب “الشعب الإسرائيلي”؟ الشباب العربي ألا يفوقهم بمئات الأضعاف عدداً و عنفواناً؟ ماذا يمكن لأسلحة العدو المتطوره أن تفعل أمام الكم الهائل للشباب العربي؟ أليس من الضروري إعادة هيكلة أجهزة و مؤسسات الدولة، لغاية التحر من براثن شكل دولة ما بعد الإستقلال، التي تحمل في نواتها هيمنة إستعمارية؟ قد تبدو أسئلة خيالية، إلا إنها حاجة ملحّة أكثر منها أسئلة. هي دعوة للوعي من أجل مشروع ينقذ الوجود و يعيد تصحيح الحدود… و مثل أي مشروع، فهو يحتاج إلى دراسة و تخطيط و تصميم و زمن قد يقصر أو يطول، و قد يستمر الإستعمار في مخططه الشرق الأوسط الجديد، لكن هذا لا يعني التوقف عن الدفاع عن وجود أمة عريقة، بات مصيرها أقرب إلى المجهول.
للنخب الحاكمة. وكثيراً ما ميّزت البيروقراطية والفساد هذه التجربة. لقد تجاوزت السلطة التنفيذية السلطتين التشريعية والقضائية، الأمر الذي أدى إلى خروج المجتمع المدني وإخضاعه لرقابة صارمة وتكميم أفواه قواه الأكثر ابتكارا وعدائية. ومن ثم، فقد بدت الدول العربية و الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار ضعيفة للغاية على المستوى المؤسسي، ومعوقة بشكل أساسي على مستوى التطور السياسي. لقد كانت القوة العسكرية في أغلب الأوقات ضرورية لحكم وتوجيه التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها أنتجت بوضوح نظاماً استبدادياً مركزياً بيروقراطياً تسبب في أزمات داخلية خطيرة. لقد كانت هناك رسملة للدولة من قبل النخب الحاكمة على حساب المجتمع المدني. لقد قامت النخب الحاكمة بخنق المجتمع المدني لضمان الحفاظ على امتيازاتها. وكثيراً ما تتزامن النخب العسكرية و النخب السياسية والاقتصادية، و جميع ذلك يصبُّ في مصلحة مؤسس الدول العربية الحديثة ما بعد الإستقلال، أي العدو نفسه الذي يتابع مخططاته الإستعمارية في المنطقة، و بناءً على الطرح السابق، أعتقد واضحاً صعوبة التمييز بين العدو الخارجي و العدو الداخلي، و ذلك بسبب هشاشة مؤسسات الدولة التي تفتقر إلى عمود فقري عربي خاص بها. و السؤال، أليس الوقت مناسباً، للتحرر من هذا الإستغلال الطويل؟ و العمل على نظام خاص بطبيعة و تراث و عادات و حضارة المنطقة؟ الهوية ليست حدود رسمها الإستعمار، و لا أعلام لوّنها سايكس خلال 20 دقيقة. لماذا لا نعيد النظر بقيمنا و بالنظام الإسلامي بشكل علمي، منطقي، موضوعي و بعيداً عن التشوهات التاريخية و الطائفية التي زرعها العدو خوفاً من صحة هذا النظام الإسلامي الذي يضاهي بفعاليته و شموليته، جميع الأنظمة السياسية التي حكمت و تحكم أوربا، و هذا بشهادة فلاسفة و مفكرين أوربيين أيضاً. هوية تركيا، إيران، اليابان كانت في حفاظهم على خصوصية تراثهم، و ليس في حدود جغرافية-سياسية، بطبيعتها التاريخية تحمل صفة التغيير. كيف لنا أن نهزم العدو و نحن ما زلنا نلتزم بالحدود التي رسمها لنا؟ لماذا “الربيع العربي” لم يزيل الحدود بين الدول العربية؟ لماذا الأنظمة العربية تسمح لشبابها برمي أنفسهم في البحر للوصول إلى أوربا، و لا تفتح لهم الحدود للدخول إلى فلسطين؟ كم عدد شباب “الشعب الإسرائيلي”؟ الشباب العربي ألا يفوقهم بمئات الأضعاف عدداً و عنفواناً؟ ماذا يمكن لأسلحة العدو المتطوره أن تفعل أمام الكم الهائل للشباب العربي؟ أليس من الضروري إعادة هيكلة أجهزة و مؤسسات الدولة، لغاية التحر من براثن شكل دولة ما بعد الإستقلال، التي تحمل في نواتها هيمنة إستعمارية؟ قد تبدو أسئلة خيالية، إلا إنها حاجة ملحّة أكثر منها أسئلة. هي دعوة للوعي من أجل مشروع ينقذ الوجود و يعيد تصحيح الحدود… و مثل أي مشروع، فهو يحتاج إلى دراسة و تخطيط و تصميم و زمن قد يقصر أو يطول، و قد يستمر الإستعمار في مخططه الشرق الأوسط الجديد، لكن هذا لا يعني التوقف عن الدفاع عن وجود أمة عريقة، بات مصيرها أقرب إلى المجهول.
#سفيربرس _ د. سناء شامي