قهوتي : هبة دهمان
#سفيربرس _ فيينا

قمت بتجربة الغربة في حياتي مرتين وفي كل مدينة جديدة كنت اسأل بها نفسي , كيف القى ملاذي الروحي قبل الجسدي كيف أخلق الألفة في هذه الغربة كيف أخلق طقوس مزاجي ايماناً مني بأني سأعثر على مكاني حالما يعثرمزاجي على مكانه , وفي كلا الغربتين انطلقت في رحلة البحث عن مقهى , كانت شروطي واضحة مساحة صغيرة وحميمة وقهوة لذيذة وموسيقى هادئة في الخلفية , المقهى ليست مساحة فيزيائية بل مساحة شعورية أجد فيها السلام والطمأنينة برفقة فنجان قهوتي , فالقهوة هي اللغة بحد ذاتها .
كوب قهوتي الذي يرافقني بلحظات الهدوء والسعادة ويسندني بوقت التشتت ويساعدني على العمل والكتابة والانجاز , وقد اثبت علمياً واجتماعيا أن التعرض لمحفزات جديدة مثل ضجيج المقاهي ورائحة القهوة والمخبوزات يساعد الدماغ على خلق أليات جديدة لانجاز المهام ورفع الانتاجية.
كتب محمود درويش تحت الحصار في بيروت وتحت القصف في كتابه ذاكرة النسيان “أريد فقط هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة ,خمس دقائق لأتمكن من وضع هذا الفجرعلى قدميه”
ومن يلم درويش فقط ارتبطت القهوة بالمهن المتصلة بالابداع والموسيقى والفلسفة والكتابة , بغموض العبقرية فكلما قرأنا قصيدة لشاعر أو رواية لأديب أو سمعنا موسيقى لمؤلف موهوب أو اتطلعنا على أطروحة لفيلسوف فذ , دار في أذهاننا سؤال عن الكيفية السحرية التي خرج بها هذا العمل المدهش الى العالم , لذلك احتاج طقوس الخلق الى مشروب غامض وابداعي الطابع فيه قدرات خارقة على ايقاظ الحواس وتنبيه العقل ومن أجدر بوصف هذا من القهوة ,فلا عجب أن بيتهوفن كان يبدأ صباحاته الموسيقية في فيينا بستين حبة بن يقوم بعدها حبة حبة ويستخدمها بتحضير كوب قهوة ثم ينطلق بتأليف الروائع التي عاشت بذاكرة العالم الى يومنا هذا والموسيقار يوهان سبياستيان باخ كان أيضا من المدمنين على شرب القهوة.
أما الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي ارتبط اسمه بأشهر مؤلفات الأدب العربي نصب ركن كتاباته الخاص في قهوة الفيشاوي في القاهرة واستمد من عالم المقاهي أعظم أعماله وقد قال يوما “المقهى يلعب دورا كبيرا في رواياتي وربما في حياتي كلها” .
الفلاسفة أيضاً لديهم طقوسهم وشعائرهم مع القهوة وبالنسبة لكثيرين منهم هي أعظم وقود لتشغيل عقولهم وانضاج جهودهم الفكرية. أبرز المفكرين الفرنسيين فولتير في القرن الثامن عشر أبرز مثال الذي كان يستهلك في اليوم الواحد ما بين 40 ل 50 كوباً من القهوة أما الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد فكان بحوزته 50 كوباً مختلفة الأشكال يختار منهم كل يوم واحداً ليصب فيه قهوته السوداء .
وكم من قصائد كثيرة وحناجر تغنت بهذه الرائحة وهذا المذاق الخاص وبسحره كل ذلك ما هو الا دليل حي على قدرة الانسان على منح الأشياء المادية أبعاد رمزية تستحق التأمل .
علاقة الهيام هذه بين المبدعين مع القهوة لم تأتي من فراغ لأنهم يحتاجون من عقولهم أن تبقى يقظة طوال اليوم فلبى لهم هذا الكوب الفاتن هذه الأمنية , فالقهوة تتجاوز من كونها مشروب الى كونها مؤثر عقلي يملك تأثيرات واسعة على الدماغ يمكن وصف تأثير كوب القهوة بأنه يشبه توهج مصباح داخل رأسك وهذا الشعور قريب من الحقيقة فالقهوة تقفز بالقدرات المعرفية وتعزز على التركيز والانتباه وتحسن الاداء الحركي . وفي عزلة الدراسة للامتحانات أو في ذروة الانتاجية داخل المكتب في العمل يصبح هذا الكوب خير رفيق يشاركك اياها ,لأنه بحسب دراسة نشرت من قسم علوم الدماغ في جامعة هوبكنز كانت نتائجها تظهر تعزيز القهوة للذاكرة والقدرة على استرجاع المعلومات بعد فترة الدراسة ويستمر هذا المفعول حتى 24 ساعة ,ويمكن أيضا وصف العلاقة بين الدماغ والقهوة بأنها مبنية على الحب والشغف لأنها وكما يفعل أي عاشق مع حبيبته تعمل كوسيلة حماية له من مجموعة واسعة من الأمراض, فقد نش في كلية الصحة العامة في جامعة هارفرد أن شربها بشكل يومي يقلل خطر الاصابة بالسكتة الدماغية بنسبة 20% .
كوب القهوة هذا يحتوي على اكثر من ألف مركب كيميائي لم تدرس جميعها حتى الان وما تم دراسته كان له أثار على كامل الجسد , انها الشيئ الاخر الذي يجب تناوله كل يوم الى جانب التفاحة الخضراء التي تذهب بالاطباء بعيداً ومارد المصباح الذي يشعل كل خليه في رأسك .
سحر هذا المشروب لا ينتهي وغموضه لا يتوقف , سحر يبطل تعويذات الوحدة والارهاق والغياب .
#سفيربرس _ فيينا _ : هبة دهمان