إعلان
إعلان

البعد التربوي في بناء سورية الجديدة في ضوء تجارب عالمية ـ بقلم : أ‌.د. عبد الله المجيدل

إعلان

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الألكسو”
تعد التربية بمختلف مجالاتها وأبعادها، من أهم عوامل تطور المجتمعات والدول، وما من شك في أن بناء المواطن ومن ثم الأوطان هو نتيجة لمخرجات النظم التربوية، إذ إن المؤسسات التربوية معنية قبل أي مؤسسات أخرى بمسألة المواطنة، ولا سيما أن من يخطط للتربية يخطط لمجالات الحياة قاطبة، ومن خلال تأمل عوامل تقدم البلدان المتطورة وإحرازها لمواقعها الحضارية، وتجذر انتماء مواطنيها، نجد أن التربية ونظم التعليم كانت عاملاً رئيساً في تحقيق الانتماء والتقدم والبناء الحضاري، وبأن مقياس تقدم الشعوب وقوتها بات يتمثل بما تملكه من طاقات علمية وطنية، وبمخرجات وكفايات أنتجتها أنظمتها التربوية، فقوة الأمم المعاصرة تقاس اليوم، في قدراتها على بناء الروح الوطنية والعلمية والنقدية لأبنائها من أجل الحياة في عصر بات التغير السريع أهم سماته، تغير يواجه الأنظمة التربوية في مختلف البلدان، ولا سيما تلك التي هي في طور النمو، بما يفوق قدرتها على الوفاء بمتطلباته في كثير من الأحيان، في الوقت الذي تعصف بها ريح التشرذم والفرقة والتناحر الطائفي والعرقي؛ نتيجة الميل للانتماءات الفرعية الضيقة، على حساب الانتماء للكل الوطني الذي ينبغي أن يسمو فوق الانتماءات الفرعية جميعها.
فالتربية هي التنمية بجميع جوانبها، فهي تنمي الفرد في إطار قدراته واستعداداته، وبذلك يغدو المربي صانع الأمة الحقيقي، يصوغ مستقبلها، ويعكس الصورة المرجوة لنوع الثقافة، ويرسم أبعاد التطور لسورية الجديدة التي هي اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تربية، تعيد تشكيل مواطنيها، وبناء الإنسان السوري المبدع، مرهف الإحساس، المواطن الذي يعمل لوطنه ومجتمعه وللإنسانية جمعاء، مواطن يتحدى التعصب والتخلف والتطرف والجشع، يصارع القيود والإحباطات النفسية والفكرية، يعمل بثقة وإيمان في إطار قيم وطنية وإنسانية، يحرص على استيعاب العلم النافع، له ثقة في قدرة الإنسان على العطاء، ويستلهم معالم التراث العربي والإسلامي الإيجابية والنيرة، التي توحد الصف، ويبتعد عن الصفحات المحبطة من التراث، واستلهام ما هو جميل ومتألق من هذا التراث، بما يوحد الرؤى والعزيمة للأمة، والترفع عن نبش ما يفرق، ويحبط، ويهشم وشائج الانتماء للأمة وللوطن.
إن الإشكالية التنموية الرئيسة التي تواجهها سورية اليوم، هي إشكالية تربوية قبل كل شيء آخر، أي إشكالية قيم وانتماء وتنمية، وتسابق سريع في مضمار العلم والبحث العلمي، وتنمية الموارد واستثمارها بإرادة التطوير والتغيير، من خلال خطط محكمة، والتربية هي الأداة الوحيدة التي يمكنها تحقيق ذلك عبر بناء جيل يعمل بروح متحمسة للبناء، كما أنها أساس تطور مختلف أصناف العلوم. وجدير بنا هنا أن نذكر مقولة “لايبنتز” إذ يقول: “أعطوني التربية، أغير وجه أوروبا”، وتتجسد في هذه المقولة مسألة ربط العلم بالحياة بوصفه أساساً للمعرفة، شريطة تجسيد هذه الأخيرة في واقع فعلي عملي، فالتربية إذن، هي الأداة أو الأسلوب التنموي الذي تعتمده الدول والمجتمعات في إعداد المواطن وتأهيله للحياة، في واقع متغير بشكل متسارع، والعمل على تمكينه من الإسهام بعملية التنمية، وإعداده لتفهم طبيعة الحاضر واستشراف المستقبل، وهي أداة تعزيز الانتماء والمواطنة، وهي التي تضمن بناء سلوك المواطنة الذي يعبر فيه المواطنون السوريون عن إيمانهم بالانتماء لبلدهم سورية وللأمتين العربية والإسلامية، من خلال مواقف سلوكية عملية وإجرائية في مختلف المواقف الحياتية، من مثل: احترام الملكية العامة، وترشيد استثمار الموارد الطبيعية، واحترام الآخر، والحفاظ على البيئة للحد من المخاطر، التي باتت تهدد الحياة والوجود البشري برمته على هذه البسيطة. ولعلنا في هذه المقالة ننوه إلى الاستفادة من تجارب البلدان التي مرت بظروف مشابهة لما شهدته سورية خلال السنوات الأخيرة قبل التحرير. وهنا يمكن استعراض تجربتين عالميتين ناجحتين يمكن الاستفادة من نتائجهما المثبتة بصورة عملية، فيما يتعلق بالمبادئ العامة، مع تباين الظروف والخصوصيات والمعطيات التي لابد من أن يحسب حسابها، فلا يمكن استنساخ أية تجربة عالمية مهما كان مستوى نجاحها في موطنها الأصلي، إذ إن هذا النجاح المحرز لا يضمن فرص نجاحها في بيئة أخرى؛ بسبب اختلاف عوامل كثيرة. ويمكن لي في هذا المقام أن أستعرض تجربتين إحداهما أوربية، والأخرى لبلد أسيوي مسلم هو ماليزيا.
ولعلني أبدأ بالتجربة الألمانية، إذ كانت ألمانيا دولة فقيرة لا يوجد في باطن أرضها نفط أو غاز، وليس لها موارد طبيعية أخرى غير الفحم الحجري، ولكنها نهضت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمرتها تماماً، من خلال استثمارها في المواطن الألماني الذي عملت على تنشئته ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة، وبات المواطن الألماني العنصر الرئيس في الاقتصاد الألماني، فالشعب الألماني يعتز بلغته وتاريخه وجنسه، وعندما تخاطب ألمانيا بغير الألمانية حتى لو كان يتقن اللغة التي تخاطبه بها قد لا يجيبك إلا بالألمانية اعتزازاً واحتراماً للغته. ومع أن التعليم مجاني في ألمانيا بمراحله جميعها، فإنك لا تجد توجهاً نحو ما يمكن تسميته لدينا بالتخصصات النبيلة، من مثل: العلوم الطبية والهندسية، إذ إن معيار النبل في التخصص هو الإتقان، والمهم أن تتقن ما تقوم به سواء أكنت طبيباً أم صانع أحذية، وهذا مصدر التقييم الاجتماعي للفرد، وللأسف الشديد مع أننا مأمورين بالإتقان فلا نجده سلوكاً متأصلاً في أداء كثير من المهنيين في البلدان العربية، ولا وجود عندهم لوهم كليات القمة، كما هو الحال في جامعاتنا العربية، القمة فقط حين تتقن عملك وتتميز به، وحين تثبت أنك تحب عملك، لذلك نجد أن الصناعات الألمانية متقنة بمختلف أنواعها.
فالشرط الرئيس للنهضة في بلداننا العربية يتمثل في بناء الإنسان العربي من جديد، وهو السلاح الأكثر تأثيراً في الحفاظ على وجودنا، ويمتلك أهمية تفوق أهمية بناء الجامعات، والاستثمار في النفط، وبناء الجسور والشوارع والمصانع قبل أن نبني الإنسان العربي الذي يفخر بانتمائه لعروبته ويعتز بلغته وتاريخه، عندها نستطيع بناء أوطان قوية منيعة ومتطورة تشغل الموقع الذي يليق بها على خارطة الحضارة العالمية.
أما التجربة الماليزية فلعل من دواعي عرضها الجملة التي قالها مخاتير محمد، عندما زار دمشق في عام 1952 وحينذاك كانت سوريا متقدمة ومنفتحة صناعياً واقتصاديا على العالم، وكانت صناعتها مشهورة بالجودة، فانبهر من ذلك، واستاء من حالة بلده التي كانت فقيرة ومتأخرة، فقال جملته الشهيرة: “سأجعل من ماليزيا نسخة من سوريا” ومن المفيد أن نطلع على التجربة الماليزية كما تحدث عنها مخاتير محمد نفسه من خلال عرض الصحفي ياسر كمال الغرباوي الذي سمعها من الدكتور مخاتير محمد شخصياً، في أثناء حضوره فعاليات منتدى كوالالمبور عام 2014 بعنوان “الدولة المدنية رؤية إسلامية”. إذ شخص مخاتير محمد مكامن الخلل والعطب في البلدان العربية، فقال: نحن في ماليزيا بلد متعدد الأعراق، والأديان، والثقافات، واللغات، وقعنا في حرب أهلية ضربت بعمق أمن واستقرار المجتمع، وخلال هذه الاضطرابات والقلاقل لم نستطع وضع لبنة فوق اختها؛ فالتنمية في المجتمعات، لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، فكان لازماً علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية، دون استثناء لأحد، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع؛ لكى نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد، وقد نجحنا في ذلك من خلال تبني خطة 2020 لبناء ماليزيا الجديدة، وتحركنا قدما في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير قادر على المنافسة في السوق العالمية بفضل التعايش والتسامح. وقد تناول عدداً من النقاط منها:
– لا بد من ضبط البوصلة نحو الملفات الحقيقية في المجتمعات والشعوب، من مثل: الفقر، والبطالة، والجوع، والجهل؛ لأن الانشغال بالأيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ثقافية وفكرية عليه لن يقود المجتمعات إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع، فالناس مع الجوع والفقر لا يمكنك أن تطلب منهم بناء الوعي، ونشر الثقافة، وقال نحن المسلمين صرفنا أوقاتا وجهودًا كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية، من مثل: الصراع بين السنة والشيعة وغيرها من المعارك القديمة.
– كما أضاف بأن الفتاوى لن تحل مشكلات المسلمين، وشرح مهاتير هذه النقطة باستفاضة، إذ قال: إن قيادة المجتمعات المسلمة والحركة بها للأمام، ينبغي ألّا تخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ؛ فالمجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ، أصيبت بالتخلف والجهل، فبعض الفقهاء لدينا في ماليزيا حرموا على الناس استخدام التليفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، وجرموا تجارب عباس بن فرناس للطيران. وقال مخاتير: إن كلام بعض الفقهاء عندنا في ماليزيا “بأن التدين لوحده كاف لتحقيق النهوض والتقدم”، أثر سلبًا في المجتمع فقد انخفضت لدينا نسب العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، بل بلغ الأمر في بعض الكتابات الدينية إلى تحريم الاشتغال بهذه العلوم؛ وبالتالي أكد مهاتير أن حركة المجتمع لابد أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يُدرك أن فتاوى وآراء بعض رجال الدين ليست ديناً، فنحن نُقدس النص القرآني؛ ولكن من الخطأ تقديس أقوال بعض المفسرين واعتبارها هي الأخرى ديناً واجب الاتباع.
– قال مهاتير: عون لله لا ينزل على المُتعصبين “إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم” فنحن المسلمين قسمنا أنفسنا جماعات وطوائف وفرق، يقتل بعضها بعضًا بدم بارد، فأصبحت طاقتنا مُهدرة؛ بسبب ثقافة الثأر والانتقام والتي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة عبر مختلف الوسائل، وبحماس زائد، ثم بعد كل هذا ذلك نطلب من الله أن يرحمنا، ويجعل السلام والاستقرار يستوطن أرضنا!!! فذلك ضرب من الخيال في ظل سنن الله التي يخضع لها البشر، فلابد من أن نساعد أنفسنا أولاً، وأن نتجاوز آلام الماضي وننحاز للمستقبل. نحن في ماليزيا قررنا أن نعبر للمستقبل بالعلم والتعليم وبمشاركة كل المكونات العرقية، والدينية، والثقافية دون الالتفات لعذابات الماضي، ومعاركه، فنحن أبناء اليوم وأبناء ماليزيا الموحدة نعيش تحت سقف واحد.
والآن بعد سقوط نظام الظلم والقهر والفساد، تشهد البلاد تحولات جوهرية، تشكل محطة تاريخية ومهمة، ونقطة تحول فارقة في تاريخ سورية المعاصر، من خلال بناء سورية الجديدة، التي تشير كل المؤشرات والمعاني التي أوردها الرئيس أحمد الشرع في كلماته، إلى روح عامرة بإرادة البناء، وإصرار على أن تتبوأ سورية المكانة التي تليق بتاريخها وحضارتها، وانخراط المواطنين الشرفاء جميعهم، بإرادة رجل واحد في عمليات البناء، ولعل البناء التربوي للمواطن السوري يتصدر عمليات البناء جميعها، وعندما نتحدث عن التربية هنا لا نقصد بها المعنى الضيق الذي يتمثل بالتربية النظامية، بل المعنى الواسع للتربية الذي يبدأ من الأسرة، ومن ثم الروضة، والمدرسة، وجماعة الاقران، والمؤسسات الدينية، ووسائل الإعلام، وغيرها من المؤسسات التي تؤثر في سلوك الفرد وقيمه الوطنية. فالعمل التطوعي على سبيل المثال قيمة تربوية ووطنية وسلوك وطني وحضاري، يمكن أن يؤطر طاقات حي أو مدينة أو بلدة أو قرية، لعمل يكرس قيم المواطنة المتعلقة بالنظافة، أو المحافظة على البيئة، أو أي هدف آخر يمكن إنجازه بفعل جماعي، ويكرس سلوكاً قيمياً لدى الناشئة، ويمكن القياس على ذلك في أنشطة اجتماعية أو بيئية، أخرى.

#سفيربرس ــ بقلم : أ‌.د. عبد الله المجيدل

سفيربرس ـ د. عبدالله المجيدل
إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *